“شلقم”: كم نحتاج من القطط لتصطاد ما تراكم من أوراق التخلف والشعارات
قال عبد الرحمن شلقم وزير خارجية ليبيا ومندوبها الأسبق لدى الأمم المتحدة، الزعيم الصيني السابق جيانغ زيمن قال إنَّ رجال الصين العظماء ثلاثة: سون يات سن مؤسس الجمهورية الصينية المعروف بلقب “أبو الصين”، وماو تسي تونغ مؤسس الجمهورية الثانية، ودينغ هسياو بنغ.
أطلق الصينيون على بلادهم الأرض الوسطى ولم يقصدوا بذلك المكان الجغرافي فوق الأرض بل مكان وطنهم بين السماء والأرض، واعتقدوا أنَّ من ليس صينياً فهو غريب بطبيعته عن تلك الدنيا الوسطى التي يحيون بها. عبر تاريخ ذلك الكيان الضخم، كان للرجال دورهم المتميز في حياته وسجّلوا في مسيرة تاريخه. الأسطورة وتضاريس الزمن وجيولوجيا الصراع تصنع الفرد الرمز الذي يعيد تركيب الوطن في مختبر الإنسان. ماو تسي تونغ، الزعيم الفيلسوف المقاتل، عندما صاغ كتابه الأحمر هدف منه إلى إعادة تكوين الناس وتشكيل الوطن.
وأضاف شلقم في مقال له بعنوان “القط أكل الكتاب الأحمر” بصحيفة الشرق الأوسط، أراده كتاباً مقدساً يُطعِم الجائع ويشفي المريض، ويشق طريق النهضة للوطن العملاق. الآيديولوجيا زنزانة العقل وكبل القدرة البشرية، وصين ماو كانت الدليل العملي الحيّ على ذلك. حرّم كل الكتب وحرقها، وأمر بتدمير الرموز الدينية، ولم يسمح إلا بكتابه وصوره وتماثيله وأقواله، وغاصت البلاد في مستنقع الخوف والفقر والموت. الثورة الثقافية التي أعلنها ماو تسي تونغ سنة 1966 للتخلص ممن سماهم أعداء الثورة، كلّفت البلاد عشرات الملايين من الموتى جوعاً ومرضاً، ونقل الكثير من قيادات الحزب الشيوعي للعمل في المصانع والمزارع ولم يبقَ إلى جانبه من القادة التاريخيين سوى قلة أبرزهم شوين لاي الذي ترأس الوزارة سنوات طويلة وكان مجرد أداة تنفّذ ما يأمر به الزعيم.
من بين من نُقل إلى العمل في المصانع رجل اسمه دنغ هسياو بنغ، وكان من كبار قادة الحزب وأصبح يحمل صفة العامل. ماذا كانت جريمة هذا الرجل القيادي في الحزب الشيوعي الذي أصبح يحمل، رسمياً، صفة عامل بمصنع الجرارات؟ عندما كان دنغ هسياو بنغ في قيادة الحزب قام بجولات في بعض مناطق البلاد بما فيها الريف، ودعا إلى مراجعة بعض السياسات الزراعية، واستعمل عبارة «لا يهم لون القط، المهم أنه يصطاد الفأر»، وقصد بذلك أن النتائج التي تتحقق من السياسات والأفعال هي الأهم. عُدّت تلك الكلمات تعبيراً صريحاً عن خيانته واللمز في فلسفة الزعيم الأوحد ماو وحوَّلت دنغ إلى مجرد عامل في مصنع بعيد يلبس بدلة العمل ويشمّر عن ساعديه ويزاحم رفاقه العمال وسط الآلات. بعد تبدد دخان الثورة الثقافية وما ألحقته بالبلاد من كوارث، بدأت مرحلة أخرى من الإزاحة في قيادات الحزب وطالت أسماء كبيرة بينها ليو تشاو تشي وغيره، وجرت مراجعة كان من نتائجها إعادة دنغ هسياو بنغ إلى قيادة الحزب. كانت مدارج حياة الرجل الشخصية والسياسية نسخة من مسيرة الصين في كل شيء؛ الفقر والغربة والمعاناة والمحاكمة والتهميش، لكنها تعود كي تنهض رغم كل القفزات والسقطات والمعاناة. خاض صراعاً مفتوحاً مع من أطلق عليهم عصابة الأربعة وبينهم زوجة ماو تسي تونغ، ونجا من الإعدام بأعجوبة، وفي بدايات الثورة الشيوعية اُغتيل والده، وفي أثناء الثورة الثقافية الماويّة أُسقط ابنه من مبنى عالٍ وأُصيب بالشلل.
وأنهى مقاله بقصة حياة الزعيم الصيني قائلا:” لقد قام دينغ بنقلة صينية أسطورية تختلف في كل شيء عن نقلات ماو تسي تونغ. عرف الصين في رحلة معاناة نقلته بين الريف والمصنع مكسوراً، وعاش بين المزارعين الفقراء المعدمين، ورأى الموتى الذين قضوا بيد الشعارات وهول القفزات الثورية والثقافية، وقبل ذلك عاش معدماً في فرنسا وعمل في أماكن لا تخلو من الإهانة، وعلّمته الحياة في مختبرها أن العلم والمبادرات الفردية هي الطريق إلى التقدم، فقام بإرسال البعثات الدراسية إلى الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، وفتح باب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي للتكنوقراط والعلماء، وجعل الصين سوقاً مفتوحة فتفجرت القدرات، وبدأت القفزة الحقيقية نحو التقدم. قِطّ دنغ هسياو بنغ الذي لم يكن يهتم بلونه، استطاع أن يصطاد كتاب ماو تسي تونغ الأحمر، ويضع الصين على مدرج النهضة والتقدم، وعندما جاء الزعيم الرابع تشي جينبينغ حلّقت الصين تحت قيادته في دنيا التقدم الأسطوري، وصارت قوة عظمى في كل شيء يندفع نحوها الجميع للاستثمار فيها ويحسب لها الكبار أكثر من حساب.
كم نحتاج من القطط لتصطاد ما تراكم من أوراق الوهن والتخلف وخرافات الشعارات والقفزات التي تشدنا إلى الوراء!.