مقالاتاخبار مميزة

فوزي عمار يكتب: ذكاء اللعبة الخطرة

السياسة هي اللعبة الخطرة، اللعبة الخطرة تبدو ملامحها حوادث عرضية وليست معدة سلفا، لتقنع الجميع بأن الأمر لم يدبر بليل.

اللعبة الخطرة تضع حلولا لمشاكل لا تعمل ولا تحل المشكلة بل تديرها وتستفيد منها، وبذلك هي إيحاء بالحركة بديلا عن الحركة، كما أن الحروب تصمم لخلق مناطق نزاع قليلة التوتر “Low-intensity conflict” حتى لا تصل مداها خارج المنطقة المبرمجة لها ولا تؤثر في السياسة والاقتصاد العولمي بشيء كثير.

تاريحيا، المدرسة السياسية الغربية مدرسة ذكية جدا، وليس بالسهولة اكتشاف ماذا يريد الغرب وماذا يخططون، فاللعبة الخطرة دائما تظهر ما لا تبطن، لقد تسببت بريطانيا في احتلال فلسطين من خلال وعد بلفور رغم صداقة بريطانيا للعرب، وانحازت أمريكا لإسرائيل منذ تأسيسها حتى اليوم، ولقد احتلت أمريكا العراق وأسقطت نظاما تحت ذريعة وكذبة أسلحة الدمار الشامل، وبالمقابل تنشر الصحافة الغربية وماكينتها الضخمة مثل البي بي سي البريطانية والسي إن إن الأمريكية وغيرها خروقات حقوق الأنسان في هذه الدول على يد جنودها، مثل ما حصل في سجن أبوغريب، ليتبارى السطحيون والمنبهرون بالنموذج الغربي بهذه الإنجازات الضخمة في الدول الغربية، ولتصبح ذكرى يذكرنا بها المغتربون والمجنسون ومواطنو الدرجة الثانية الذين لم يصل منهم أحد في وظيفة اكثر من عميل في وكالات الاستخبارات لهذه الدولة.

يقول ثعلب السياسة الأمريكية هنري كيسنجر في كتابه (الدبلوماسية): “ليس من مصلحة أمريكا أن تحل أي مشكلة في العالم، بل من مصلحتها أن تمسك بخيوط المشكلة وتحركها حسب المصلحة القومية الأمريكية”.

من ذكاء اللعبة الخطرة أنها تبيع وهم الديمقراطية، بينما هي ديمقراطية الديكتاتورية المالية.

من قوة ذكاء اللعبة أن يصبح في حالة استثنائية رئيس أكبر دولة هي أمريكا من أصول أفريقية، وأن يصبح صاحب محل شاورما في أمريكا رئيس دولة في أفغانستان، ولكنه لا يعين سفيرا لأمريكا حتى في دولة هامشية في إفريقيا، فأمريكا لا تثق في عملائها دائما، ولهم دور محدد فقط.

أداء محكم للعبة لا تستطيع أن تجادل معه أو تقنع نصف متعلم ونصف عميل أن أمريكا دولة عنصرية وتقف مع إسرائيل ضد فلسطين، إنها اللعبة الذكية أو ذكاء اللعبة الخطرة التي ترى نتائجها وتوافق على مقدماتها رغم أن مخرجاتها تقتل أو تهجر أخاك إذا بقي حيا.

مقومات اللعبة الخطرة، هي التعامل مع المتغيرات المستمرة ومجتمع المخاطرة وليس المجتمع الساكن كما في الشرق، تنافس ظاهره مقنع وحقيقة لا تنافس إلا مثلما تتنافس الكوكا كولا مع البيبسي كولا، مثل ملكية شركات الأدوية العالمية التي تملكها نفس شركات السلاح والدمار لتقتل وتبيع الدواء لتربح مرتين.

من مقومات اللعبة أيضا مجتمع يغير الرؤساء في شكل انتخابات تقنعك بنتائجها، وقضاء عادل في الداخل ودفاع عن حقوق الإنسان والبيئة، لكنه يقصف أخاك المسلم والعربي بالفسفور واليورانيوم المخصب في الخارج (العراق أفصح دليل)، وكل ذلك بإشراف منظمات دولية هي بالأساس أدوات في يد الدول الكبرى المهيمنة، وعقوبات البند السابع في مجلس الأمن جزء من أدوات التحكم في الشعوب الممانعة، فلا تسمع قرارا تحت البند السابع ضد إسرائيل مثلا.

ذكاء اللعبة الخطرة يبيح لك الكلام وحتى الصراخ، ولكن لا تستطيع أن تغير الواقع مهما صرخت، بل تدخلك في دوامة من الفوضى والاضرابات وقروض البنك الدولي وصندوق النقد.

من ذكاء اللعبة الخطرة أن تختار فصيلا عربيا ذا توجه إسلاموي لتحارب به الاتحاد السوفيتي، وهم جماعة الإخوان المسلمين، والذين أسسوا جماعة الأفغان العرب، كما أشار الكاتب الكندي أين جونسون في كتابه الشهير (مسجد في ميونخ)، وليكن ممثلها في المنطقة لاحقا في ما سمي بثورات الربيع العربي، وخلق حروب الجيل الرابع من خلال التدمير الذاتي.

ذكاء اللعبة الخطرة أن تصمم لمشكلتك حلولا لا تعمل، ولجان حوار بعد لجان حوار، ومجالس بعد مجالس، ولا تفعل شيئا إلا ما رسم وخطط لها من يقود اللعبة، فهم من يصنعون الإطار الذي تتحرك بداخله عرائس السياسة الصورية وكمبارس المجتمع المسمى مدني.

من ذكاء اللعبة الخطرة أن تقنعك بنموذج اقتصاد السوق الذي نشأ في أمريكا بعد احتلال القارة الجديدة ومقتل سكانها الأصليين بعد اختراع البارود، وتقنعك بأنه يصلح في دولة صغيرة، وأن تفكيك مشاريع الدولة الوطنية المسؤولة عن الأمن الغذائي والمائي وبيعها للتجار لتنشأ طبقة اليجاريكية تنشر النيوليبرالية المتوحشة، وتتحول تدريجيا إلى شروط صندوق النقد الدولي، وأنت لست في حاجة لها حتى تستدين في نهاية المطاف من صندوق النقد الدولي، مثل الكثير من تجارب أمريكا اللاتينية الفاشلة سابقا.

من ذكاء اللعبة الخطرة، أن تجعلك تتعامل بالدولار وهو لا يساوى سوى ثمن طباعته منذ أن فك الرئيس نكسون ارتباط الدولار بالذهب وقبلها ربط بيع النفط بالدولار فقط في اتفاق براون وودز، ليصبح الدولار هو مقياس الاقتصاد العالمي، وتعويمه لاحقا سمي بصدمة نيكسون (Nixon shock)، وهذا ما يفسر قول الرئيس نيكسون حين قال: “يجب أن نلعب اللعبة كما صنعناها ويجب أن يلعبوها كما وضعناها”.

من ذكاء اللعبة الخطرة أن تظل إفريقيا الغنية بالثروات الحقيقية والمعادن فقيرة، وتتلقي المعونات من أوروبا تحت الأضواء والإعلام والبروباجندا الغربية الضخمة، لترسيخ فكرة القارة الفقيرة في الأذهان إلى الأبد.

من ذكاء اللعبة الخطرة أن تكون أغنى الدول من تملك الاقتصاد الافتراضي هي الأغنى بأرقام فلكية، مثل ثمن شركة (ميتا) التي تملك فيسبوك وإنستجرام أو تويتر، بينما لا يساوي الاقتصاد الصلب الذي ينتج القمح والشعير والغذاء الكثير مقارنة مع هذه الشركات التي لا تقدم الكثير من الفائدة الحقيقية للشعوب.

من ذكاء اللعبة الخطرة، انتشار البذور المعدلة على نطاق واسع والتي لا تصلح للزراعة إلا مرة واحدة بدلا من البذور التقليدية، لتعود وتشتري بذور كل موسم من جديد بأسعار تتزايد سنويا.

رغم حرص أغلب الدول من خلال بنوك البذور على حماية البذور الأصلية، لكن البذور المعدلة جينيا اكتسحت مزارع الأرض، ما أدى إلى اختفاء أصناف كثيرة من البذور الأصلية، وأصبحت البذور سلاحا استراتيجيا تتنافس دول وشركات عالمية كبرى على احتكاره في ما بات يعرف اليوم بـ”حرب البذور” من خلال تهجين البذور، لضرب الأمن الغذائي وتركيع الدول التي تعارض سياسات  اللعبة الخطرة.

لذا لجأ العالم إلى تخزين بدور كل الأنواع في قبو سفالبارد العالمي في النروج، والذي يسمى بـ”سفينة نوح مملكة النباتات” والموجود في كهف أسفل جبل ناء بالدائرة القطبية الشمالية لتخزين بذور المحاصيل الزراعية العالمية، وتأمين الإمدادات الغذائية تحسبا لوقوع كارثة على غرار الحرب النووية أو الأوبئة.

ويحتفظ القبو بأكثر من 860 ألف عينة من جميع دول العالم تقريبا، وحتى في حالة انقطاع الكهرباء تظل العينات محفوظة في درجة حرارة التجمد مئتي عام على الأقل.

من ذكاء اللعبة الخطرة أن تجعلك تخزن مليارت الشعوب الغلبانة في بنوكها وتحول هذه الأموال إلى قيمة دفترية ورقم فقط، لا يمكن لكن أن تسحبها أو تصرفها إلا بالقدر الذي توافق عليه وتستفيد منه لمصلحتها ولشركاتها ومصانع سلاحها وتكون تحت رحمتها متى أرادت ابتزازك.

ولكل هذه الأسباب العالم يتململ اليوم بحثا عن نظام جديد يقوض هذه المعادلات الحاكمة.

يقول عالم الاجتماع والمفكر البريطاني برتراند راسل والذي عاش مائة عام: “قد تقضي عمرك وأنت تعتقد بأنك تدافع عن أفكارك، ثم تكتشف أنك في الحقيقة تدافع عن أفكارهم التي زرعوها في عقلك”.

تلك هي تحديات نعرفها ونراها يوميا مند عقود ولكننا عاجزون على مواجهتها وفعل أي شيء تجاهها، لا على المستوى الرسمي ولا المستوى الشعبي حتى الآن، ربما لأن اللعبة أخطر وأذكى مما نتوقع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى