ياسين الزوي يكتب: البرهان وحميدتي ولعبة عض الأصابع

استيقظ المشاهد العربي صباح الرابع والعشرين من شهر رمضان المبارك على معارك واشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع داخل السودان، والعاصمة الخرطوم كانت المسرح الأكبر لهذه المواجهات التي استخدم فيها الجيش الطائرات المقاتلة.
وقبل يومين من اندلاع هذه المواجهات صدر بيان من قيادة الجيش السوداني حذر فيه من تحرك قوات الدعم السريع وإعادة انتشارها في بعض المناطق في السودان، وأن هذه التحركات تتم من غير علم أو تنسيق قيادة الجيش، وهذا البيان دق جرس إنذار مبكر عن ما هو قادم، وفي المقابل أصدرت قيادة الدعم السريع بيانا أكدت فيه أنها تقوم بواجباتها ومسؤولياتها الوطنية، وأن هذه التحركات لا تستهدف أحدًا لكن ما حصل صباح يوم 15 أبريل الجاري كان مفاجأة للجميع.
منذ قرابة أربع سنوات ومنذ الإطاحة بنظام عمر البشير إبريل 2019 تعايش الرجلان الفريق أول عبدالفتاح البرهان والفريق أول محمد حمدان دقلو مع كل التناقضات والتباينات ألتي يعيش فيها السودان، وتبادلا الأدوار فيما بينهما، حيث صعد البرهان إلى صدارة المشهد السياسي والعسكري باعتباره يمثل مجلس السيادة والقيادة العسكرية ويقوم بمقام رئيس الدولة وقائد الجيش، فيما عزز الفريق أول محمد حمدان دقلو الملقب بحميدتي دوره في أن يكون نائبا لرئيس مجلس السيادة، ويعزز مكاسبه العسكرية والأمنية والاقتصادية، ويرفع سقف طموحاته وتطلعاته لما هو أبعد من ذلك.
ظلت الخلافات والتباينات مكتومة وتعالج بعيدا عن الأضواء، وفي مواقف كثيرة أثنى البرهان على حميدتي والدعم السريع ويكيل المديح لهم والعكس.
ولقد كانت السودان محظوظة بعد نهاية نظام البشير حيث إنه في فترة زمنية قصيرة لم تتجاوز أشهر قليلة اتفقت الأطراف السياسية المختلفة مع جناحي المكون العسكري الجيش السوداني والدعم السريع على تشكيل السلطات الانتقالية ولمدة ثلاثة أعوام، تكون المداورة في منصب رئيس مجلس السيادة بعد عام ونصف، ولقد كان لجهود الاتحاد الإفريقي عن طريق مبعوته البروفسور محمد ولد لبات دور متميز في تقريب وجهات النظر وتذليل الخلافات وعقد سلسلة لقاءات واجتماعات تجاوزت أربعمائة وخمسين بهذا الشأن، وطبق المثل العربي البدوي الشهير (لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم)، وجعل الجميع شركاء في إدارة هذه المرحلة الانتقالية الصعبة.
نجح الرجلان في التعاون ضد رئيس الوزراء عبدالله حمدوك الذي كان يحمل مشروعا يختلف عن تطلعاتهما ويريد أن يهمش من دور المؤسسة العسكرية في السودان وتقليص نفوذها الاقتصادي وأيضا إعادة تنظيم الدعم السريع، هذه الحسابات جعلت الرجلان يتعاونان حتى أصدر البرهان قراراته في أكتوبر 2021 بحل الحكومة ومجلسي السيادة وإعادة تشكيل المشهد السياسي السوداني بما يخدم مصالحهما ويبعد منافسيهما خصوصا رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، واعتبرت القوى السياسية ما حصل انقلابا عسكريا، وعلق الاتحاد الإفريقي عضوية السودان.
لا شك أن هذه الخطوات الكبيرة والمهمة أعادت ضبط المشهد من جديد في السودان، ولقد تعود الإخوة في السودان على الأزمات الاقتصادية والعقوبات الدولية وقرارات مجلس الأمن وربما هو البلد العربي الوحيد الذي صدر في حقه قرابة ثلاثين قرارا من مجلس الأمن الدولي.
بدا وأضحا أن أطرافا كثيرة تنظر إلى السودان دولة برأسين، حيث يمثل الفريق أول عبدالفتاح البرهان الجيش والسلطة، ويمثل الفريق أول محمد حمدان دقلو نفوذا عسكريا وأمنيا وماليا واقتصاديا لا يمكن التقليل منه، وله وضع شبه مستقل ودور عسكري مهم، تجلى واضحا في مشاركته الفاعلة بقوات كبيرة تقدر بآلاف الجنود في عاصفة الحزم في اليمن قبل سنوات، جعلت الرجل محط أنظار الجميع.
إن قصة صعود حميدتي لصدارة المشهد في السودان تحتاج إلى وقت طويل، ليس هذا المقال مكانها، وأصبح وأضحا للجميع أن التنافس والصراع بين الرجلين قادم لا محالة خصوصا أن لكل منهما تقاطعاته وتحالفاته وارتباطاته الإقليمية.
كان توقيع الاتفاق الإطاري المؤسسي للفترة الانتقالية في الخامس من ديسمبر الماضي بين القوى السياسية السودانية ينص على تشكيل حكومة مدنية انتقالية في مدة أقصاها يوليو القادم ولمدة عامين، وإجراء انتخابات، وأيضا خروج الجيش من السياسة وتسليم السلطة للمدنين، وأيضا دمج الدعم السريع في الجيش.
إن توقيع هذا الاتفاق هو بداية الخلاف العلني بين الرجلين، وبدأت المواقف تتصاعد حيث أعلن البرهان في تصريحات إعلامية أنه يشترط دمج الدعم السريع تحت مظلة الجيش حتى يدعم الاتفاق، ولقد قام عضو مجلس السيادة الفريق الكباشي بالتوقيع على اتفاق السلام في جوبا في نسخته الثانية الذي كان من المفترض أن يوقعه حميدتي باعتباره مسؤولا عن هذا الملف.
كل هذه المواقف وغيرها انعكست على الأجواء السياسية داخل السودان، في المقابل يعمل حميدتي بشكل كبير ليل نهار على تدعيم موقعه في الحياة السياسية السودانية، ويعد نفسه للانتخابات، ويقوم بدعم الفرق الرياضية، ويدعم الطرق الصوفية، ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من فعاليات أدبية وثقافية يزخر بها السودان.
في ديسمبر الماضي أعلن الفريق حميدتي إحباط مخطط لقلب نظام الحكم في إفريقيا الوسطى تقف وراؤه جهات داخل السودان، مؤكدآ توقيف عسكريين متقاعدين ومجموعات مسلحة، وخلال أيام رد عليه البرهان ضمنا خلال زيارته لإقليم النيل الأزرق، حينما قال إن الجيش السوداني لم يجند مرتزقة حتى تقاتل في بلد آخر وهو جيش نظامي يحترم القوانين والالتزامات الدولية.
مما لا شك فيه أن تضارب المواقف والتصريحات بين أعلى هرمين للسلطة في السودان كان مؤشرا خطيرا جدًا في دولة تعيش وضعًا خاصًا مثل إفريقيا الوسطى، حيث تحكم شركة فاغنر قبضتها على الرئيس فوستن تواديرا والحكومة.
ولقد أثارت زيارة السيد حميدتي لموسكو فبراير 2022 قبل يوم من العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا الجدل وجعلت تساؤلات كثيرة حول طبيعتها وتوقيتها.
لا تخلو المؤسسة العسكرية والأمنية السودانية من خبرات وقدرات عالية تجيد التخطيط ورسم السيناريوهات
وكل ما حصل منذ ديسمبر الماضي وتوقيع الاتفاق الإطاري المؤسسي للفترة الانتقالية والشعار البراق (خروج الجيش من السياسة وتسليم السلطة للمدنيين) إلى ما يحصل هذه الأيام هو عمل مدروس ومخطط بعناية ومصيدة يراد منها إنهاء ظاهرة حميدتي والدعم السريع وإعادة تشكيل المشهد السياسي السوداني وضبط توازناته المختلفة بقيادة المؤسسة العسكرية والأمنية.
لقد كتب أحد الإخوة السودانيين المتميزين مقالا مهما قبل يوم من اندلاع المواجهات بعنوان الهماسون بالحرب، منبها في مقاله من أن هناك من يخطط لجر السودان إلى حرب حقيقية، محذرا من مخاطرها،
للأسف هذا ما حصل الآن ويدفع الشعب السوداني ثمن هذا الصراع.
يصعب حاليا التنبؤ بنتائج المعركة العسكرية، ولقد فقدت قوة الدعم السريع عنصر المباغتة وهي أيضا تواجه صعوبة بحكم قواعدها الأساسية في إقليم دارفور، حيث المدد البشري واللوجستي، وهذا يصعب ضمان استمراره في ظل تفوق جوي واضح للجيش السوداني.
تظل معركة السيطرة على الخرطوم هي الأهم باعتبارها العاصمة ومركز الثقل السياسي والاقتصادي للسودان، وهذه الأفضلية فيها إلى الجيش لغاية الآن، وسوف يكون هذا الأسبوع حاسما في إظهار قدرات كل طرف من ناحية التنظيم والضبط وقدرته على الاتصال والإمداد بين مختلف وحداته.
وتبدأ لعبة عض الأصابع بين الطرفين، حيث من يصرخ أولا سوف يخسر كل شيء في هذا الصراع.